كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقصر إضافي، وهو قصر إفرادٍ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابنًا لله واتِّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة.
ووصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل؛ ففي صدر إنجيل يوحنا في البدء كان الكلمةُ، والكلامة كان عند الله، وكان الكلمة الله ثم قال والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا.
وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية، فمعنى ذلك أنّه أثَر كلمة الله.
والكلمةُ هي التكوين، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح بـ (كُن).
فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة، ولكنّه تعلّقُ القدرة.
ووصف عيسى بذلك لأنَّه لم يكن لتكوينه التّأثيرُ الظاهرُ المعروف في تكوين الأجنّة، فكان حدوثه بتعلّق القدرة، فيكون في {كلمته} في الآية مجازان: مجاز حذف، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة.
ومعنى {ألقاها إلى مريم} أوصلها إلى مريم، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة، وإلاّ فإنّ المراد منها عيسى، أو أراد كلمة أمر التكوين.
ووصف عيسى بأنّه روح الله وصفٌ وقع في الأناجيل.
وقد أقرّه الله هنا، فهو ممّا نزل حقًّا.
ومعنى كون عيسى روحًا من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة، لكنّها نسبت إلى الله لأنَّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفةٍ فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح.
ووُصف بأنّه مبتدأ من جانب الله، وقيل: لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه.
وقيل: الروح النفخة.
والعرب تسمّى النفس روحًا والنفخ روحًا.
قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد نارًا بحطب:
فقلت له ارفعها إليك فأَحيها ** برُوحك واقتُتْه لها قِيتة قَدْرا

(أي بنفخك).
وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل.
و(مِن) ابتدائية على التقادير.
فإن قلت: ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى، وهلاّ وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ} [الكهف: 110] فكان أصرح في بيان العبوديّة، وأنفى للضلال.
قلت: الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل، أو في كلام الحواريّين وصفًا لعيسى عليه السّلام، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذٍ، فلمَّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنَّه ابن الله وأنَّه إله.
وتصدير جملة القصر بأنّه {رسول الله} ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يُرسل الإله إلهًا مثله، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح.
{فآمنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله واحد سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما في السماوات وَمَا في الأرض وكفى بالله وَكِيلًا} صلى الله عليه وسلم.
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه.
أي إذا وضح كلّ ما بيَّنه الله من وحدانيَّته، وتنزيهه، وصدق رسله، يتفرّع أن آمُركم بالإيمان بالله ورسله.
وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين، أي النصارى، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدًا للأمر بالإيمان برُسله، وهو المقصود، وهذا هو الظاهر عندي.
وأريدَ بالرسل جميعهم، أي لا تكفروا بواحد من رسله.
وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه.
وقوله: {ولا تقولوا ثلاثة} أي لا تنطقوا بهذه الكلمة، ولعلّها كانت شعارًا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة: الإبهام والخنصر والبنصر.
والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد.
لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلاّ عن اعتقاد، فالنهي هنا كناية بإرادةِ المعنى ولازمه.
والمخاطب بقوله: {ولا تقولوا} خصوص النّصارى.
و{ثلاثة} خبر مبتدأ محذوف كانَ حذفه ليصلحَ لكلّ ما يصلحُ تقديره من مذاهبهم من التثليث، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ {ثلاثة} من الأسماء الدّالة على الإله، وهي عدّة أسماء.
ففي الآية الأخرى {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
وفي آية آخر هذه السورة {أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله} [المائدة: 116]، أي إلهين مع الله، كما سيأتي، فالمجموع ثلاثة: كلّ واحد منهم إله؛ ولكنّهم يقولون: أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد.
قال في الكشاف: (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنَّهم يقولون: هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم، فتقديره الله ثلاثة وإلاّ فتقديره الآلهة ثلاثة اهـ.
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم، ولكنّهم مختلفون في كيفيته.
ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى (ثَالُوث)، أي أنَّه جوهر واحد، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم، واحدها أقْنُوم بضم الهمزة وسكون القاف.
قال في [القاموس]: هو كلمة رومية، وفسّره القاموس بالأصل، وفسّره التفتازاني في كتاب [المقاصد] بالصفة.
ويظهر أنَّه معرّب كلمة (قنوم بقاف معقد عجمي) وهو الاسم، أي (الكلمة).
وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة (آبَا ابنَا رُوحا قُدُسا) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض: فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات.
والأقنوم الثاني أقنوم العلم، وهو الابن، وهو دونَ الأقنوم الأول، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية.
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القُدس، وهو صفة الحياة، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات.
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية، مثل القِدم والبقاء، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم الذات بالأب، وأقنوم العلم بالابن، وأقنوم الحياة بالروح القدس، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله، وأطلق الروح القدس على ما به كُوّن المسيح في بطن مريم، على أنَّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن، (كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد).
وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله، أي أنَّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلَّلًا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة، وقاربوا عقيدة الشرك.
ثمّ جَرّهم الغُلوّ في تقديس المسيح فتوهَّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح، فقالوا: إنّ المسيح صار ناسوتُه لاَهُوتًا، باتّحاد أقنُوم العلم به، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح، فقالوا: الله هو المسيح.
هذا أصل التثليث عند النّصارى، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى: {ولا تقولوا ثلاثة} وقوله: {لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72] وقولُه: {أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] وكانوا يقولون: في عيسى لاهوتيةٌ من جهة الأب ونَاسوتيَّةٌ أي إنسانية من جهة الأمّ.
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه (آريوس) قالو بالتوحيد وأنّ عيسى عبدُ الله مخلوق، وكان في زمن (قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية).
فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة327 تبع مقالة (آريوس)، ثمّ رأى مخالفةَ معظممِ الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم، فجمع مجمعًا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافًا كثيرًا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحدٍ ثلاثَمائة وبضعةَ عشر عالمًا فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصَره، وهذه الطائفة تلقّب (المَلْكَانِيَّة) نسبة للمَلِك.
واتَّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتَّحدت بجسد عيسى، وتقمَّصت في ناسوته، أي إنسانيته، ومازجته امتزاج الخمر بالماء، فصارت الكلمةُ ذاتًا في بطن مريم، وصارت تلك الذات ابنًا لله تعالى، فالإلهُ مجموع ثلاثة أشياء:
الأوّل الأب ذُو الوجود، والثاني الابن ذُو الكلمة، أي العلم، والثالث روح القدس.
ثمّ حدثت فيهم فرقة اليَعْقوبية وفرقة النَّسْطُورِيَّة في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان.
فاليعقوبيّة، ويسمّون الآن (أرْثُودُكْسْ)، ظَهروا في أواسط القرن السادس المسيحي، وهم أسبق من النسطورية؛ قالوا: انقلبت الإلهية لَحْمًا ودَمًا؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صُنْعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى.
وكان نصارى الحبشة يعاقبه، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى: {لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم} في سورة المائدة (72)، وعند قوله تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم} [مريم: 37].
والنَّسطوريّة قالت: اتَّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة مِن بلّور، فالمسح إنسان، وهو كلمة الله، فلذلك هو إنسان إله، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب (جَاثِليق).
وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب.
وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريقٍ نحلتَه بين قبائل العرب.
وكان الأكاسرة حُماة للنسطورية.
وقياصرةُ الرّوم حُمَاة لليعقوبية.
وقد شاعت النّصرانيّة بنحْلتيْها في بَكْر، وتَغلب، وربيعة، ولخم، وجُذام، وتَنُوخ، وكَلْب، ونَجْران، واليَمَن، والبحرين.
وقد بَسَطْتُ هذا ليعلم حُسن الإيجاز في قوله تعالى: {ولا تقولوا ثلاثة} وإتيانه على هذه المذاهب كلّها.
فللّه هذا الإعجاز العلمي.